145 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الدين يسر ، ولن
يُشاد الدينَ إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ابشروا ، استعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدُلجة
) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب الدين يسر ، رقم (39) .
وفي رواية له : ( سددوا وقاربوا اغدوا وروحوا ، وشيءٍ من الدُلجة القصد
القَصد تبلغوا ) أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق
، باب القصد والمداومة على العمل ، رقم (6463) .
----------------------------------------------
قوله : ( الدين ) هو مرفوع على ما لم يسم فاعله . وروي منصوباً، وروي: ( لن
يشاد الدينَ أحدٌ ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إلا غلبه ) أي: غلبه الدين ، وعجز
ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه . (والغدوة ) سير أول النهار ، ( والروحة
): آخر النهار . ( و الدلجة ) :آخر الليل . وهذا استعارة وتمثيل ، ومعناه:
استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم ، بحيث
تستلذون العبادة ولا تسأمون ، وتبلغون مقصودكم ، كما أن المسافر الحاذق يسير في
هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها، فيصل المقصود بغير تعب . والله أعلم .
الشرح
ساق المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب القصد في العبادة حديث أبي هريرة رضي الله
عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر ) يعني : الدين الذي بعث به الله محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي يدين به
العباد ربهم ويتعبدون له به يسر ، كما قال عز وجل ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (البقرة:185) ، وقال تعالى حين ذكره
أمره بالوضوء والغسل من الجنابة والتيمم ـ عند العدم أو المرض ـ قال : ( مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) (المائدة:6) ، وقال تعالى : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) (الحج:78) .
فالنصوص كلها تدل على أن هذا الدين يسر ، وهو كذلك .
ولو تفكر الإنسان في العبادات اليومية لوجد الصلاة خمس صلوات ميسرة موزعة في
أوقات ، يتقدمها الطهر ؛ طهر للبدن وطهر للقلب ، فيتوضأ الإنسان عند كل صلاة ،
ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من
التوابين واجعلني من المتطهرين ، فيطهر بدنه أولاً ثم قلبه بالتوحيد ثانياً ، ثم
يصلي .
ولو تفكرت أيضاً في الزكاة ، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام ، تجد أنها
سهلة ، فأولاً لا تجب إلا في الأموال النامية ، أو ما في حكمها ، ولا تجب في كل
مال ، بل في الأموال النامية التي تنمو وتزيد كالتجارة ، أو ما في حكمها كالذهب
والفضة وإن كان لا يزيد ، أما ما يستعمله الإنسان في بيته ، وفي مركوبه ، فقد قال
النبي عليه الصلاة والسلام : ( ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة ) ]أخرجه البخاري (1463)
ومسلم (982)[ ، جميع أواني البيت وفرش البيت والخدم
الذين في البيت ، والسيارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصة نفسه ، فإنه ليس فيه
زكاة ، فهذا يسر .
ثم الزكاة الواجبة يسيرة جداً ، فهي ربع العشر ، يعني واحد من أربعين ، وهذا
أيضاً يسير ، ثم إذا أديت الزكاة فإنها لن تنقص مالك ، كما قال النبي عليه الصلاة
والسلام : ( ما نقصت صدقة من مال ) ]أخرجه مسلم (2588)[ ، بل تجعل فيه البركة
وتنميه وتزكيه وتطهره .
وانظر إلى الصوم أيضاً ، ليس كل السنة ولا نصف السنة ولا ربع السنة ، بل شهر واحد من أثنى عشر شهراً ، ومع ذلك فهو ميسر ، إذا مرضت
فأفطر ، وإذا سافرت فأفطر ، وإذا كنت لا تستطيع الصوم في كل دهرك فأطعم عن كل يوم
مسكيناً .
أنظر إلى الحج أيضاً ميسر ، قال تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (آل عمران:97) ومن لم يستطع : إن
كان غنياً بماله أناب من يحج عنه ، وإن كان غير غني بماله ولا بدنه سقط عنه الحج .
فالحاصل أن الدين يسر ، يسر في أصل التشريع ، ويسر فيما إذا طرأ ما يوجب
الحاجة إلى التيسير ، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعمران بن حصين : ( صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب ) ]أخرجه البخاري (1117)[ فالدين يسر .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه ) يعني : لن يطلب أحد التشدد في الدين إلا
غلب وهزم ، وكل ومل وتعب ، ثم استحسر فترك ، هذا معنى قوله : ( لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه ) يعني أنك إذا شددت الدين وطلبت الشدة ،
فسوف يغلبك الدين ، وسوف تهلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
السابق : ( هلك المتنطعون ) .
ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( فسددوا وقاربوا ابشروا ) ، سدد أي افعل الشيء على وجه السداد والإصابة ، فإن لم يتيسر فقارب ، ولهذا
قال : ( وقاربوا )، والواو هنا بمعنى ( أو ) ، يعني سددوا إن
أمكن ، وإن لم يمكن فالمقاربة . ( وابشروا ) يعني ابشروا أنكم إذا سددتم أصبتم ، أو قاربتم ، فابشروا بالثواب الجزيل
والخير والمعونة من الله عز وجل ، وهذا يستعمله النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً
يبشر أصحابه بما يسرهم ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على إدخال السرور على إخوانه
ما استطاع، بالبشارة والبشاشة وغير ذلك .
ومن ذلك أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما حدث أصحابه بأن الله تعالى يقول
يوم القيامة : ( يا آدم فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، فيقول : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث
النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) فاشتد ذلك على الصحابة وقالوا : يا رسول الله ، آينا ذلك الواحد ؟ قال : أبشروا ، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ، ومنك رجل . ثم قال : والذي نفسي
بيده ، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبرنا ، فقال : أرجو أن تكونوا ثلث
أهل الجنة ، فكبرنا ، فقال : أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، فكبرنا ، فقال : ما
أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور
أسود ) ]أخرجه البخاري (3348)،
ومسلم (222)[ .
وهكذا ينبغي للإنسان أن يستعمل البشرى لإخوانه ما استطاع . ولكن أحياناً يكون
الإنذار خيراً لأخيه المسلم ، فقد يكون أخوك المسلم في جانب تفريط في واجب ، أو
انتهاك لمحرم ، فيكون من المصلحة أن تنذره وتخوفه . فالإنسان ينبغي له أن يستعمل
الحكمة ، ولكن يغلب جانب البشري ، فلو جاءك رجل مثلاً وقال : إنه أسرف على نفسه ،
وفعل معاصي كبيرة ، وسأل هل له من توبة ؟ فينبغي لك أن تقول : نعم أبشر ، إذا تبت
تاب الله عليك ، فتدخل عليه السرور ، وتدخل عليه الأمل حتى لا ييأس من رحمة الله
عز وجل .
الحاصل أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : ( سددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ، والقصد
القَصد تبلغوا ) يعني معناه : استعينوا في أطراف النهار ؛
وأوله وآخره ، وشيء من الليل ( والقصد القصد تبلغوا ) هذا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يضرب مثلاً للسفر المعنوي
بالسفر الحسي ، فإن الإنسان المسافر حساً يبتغي له أن يكون سيرة في أول النهار وفي
آخر النهار وفي شيء من الليل ، لأن ذلك هو الوقت المريح للراحلة وللمسافر ، ويحتمل
أنه أراد بذلك أن أول النهار وآخره محل التسبيح ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الأحزاب:41،42) ، وكذلك الليل محل
للقيام .
وعلى كل حال فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمرنا أن لا نجعل أوقاتنا كلها
دأباً في العبادة ، لأن ذلك يؤدي إلى الملل والاستحسار والتعب والترك في النهاية .
أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
لتحميل المقطع الصوتي :
----------------------------------------------------------
باب الاقتصاد فى الطاعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ضع تعليقا أو استفسارا أو طلبا لكتاب تريد أن نضيفه للموقع