الاثنين، 29 ديسمبر 2014

الثرثارُون والمتشدقون والمتفيهقون




عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( إن المؤمن ليدركُ بحسن خُلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود.

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا زعيم ببيت في ربضِ الجنةِ لمن ترك المراء، وإن كان مُحقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) حديث صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلى، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحسانكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلى، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارُون والمتشدقون والمتفيهقون" قالوا : يا رسول الله قد علمنا (الثرثارُون والمتُشدقون) فما المُتفيهقُون؟ قال: ( المتكبرون) رواه الترمذي وقال : حديث حسنٌ.

(الثرثارُ): هو كثيرُ الكلامِ تكلفاً. (والمُتشدقُ): المتطاولُ على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه؛ والمتفيهقُ أصلهُ من الفهق وهو الامتلاءُ، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسعُ فيه، ويغربُ به تكبراً وارتفاعاً، وإظهاراً للفضيلة على غيره.


وروى الترمذي عن عبد الله بن المبارك رحمه الله في تفسير حُسن الخُلقِ قال: هُو طلاقةُ الوجه، وبذلُ المعروف. وكف الأذى.

الشرح :

قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى -

في شرح رياض الصالحين :

( ذكر المؤلف رحمه الله أحاديث متعددة في بيان حسن الخلق، وأن من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقاً، فكلما كنت أحسن خلقاً؛ كنت أقرب إلى الله ورسوله من غيرك، وأبعد الناس منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون.

الثرثارون الذين يكثرون الكلام ويأخذون المجالس عن الناس، فإذا جلس في المجلس أخذ الكلام عن غيره، وصار كأن لم يكن في المجلس إلا هو؛ يتكلم ولا يدع غيره يتكلم، وهذا لا شك أنه نوع من الكبرياء. 

لكن لو فرضنا أن أهل المجلس فوضوه وقالوا أعطنا نصحية، أعطنا موعظة فتكلم فلا حرج، إنما الكلام العادي كونك تملك المجلس ولا تدع أحداً يتكلم، حتى إن بعض الناس يحب أن يتكلم لكن لا يستطيع أن يتكلم، يخشي من مقاطعة هذا الرجل الذي ملك المجلس بكلامه.

كذلك أيضاً المتشدقون، والمتشدق هو الذي يتكلم بملء شدقيه، تجده يتكلم وكأنه أفصح العرب تكبراً وتبختراً، ومن ذلك من يتكلم باللغة العربية أمام العامة، فإن العامة لا يعرفون اللغة العربية، لو تكلمت بينهم باللغة العربية لعدّوا ذلك من باب التشدق في الكلام والتنطع، أما إذا كنت تدرس لطلبة فينبغي أن تتكلم باللغة العربية، لأجل أن تمرّنهم على اللغة العربية وعلى النطق بها، أما العامة الذين لا يعرفون فلا ينبغي أن تتكلم بينهم باللغة العربية، بل تكلم معهم بلغتهم التي يعرفون ، ولا تغرب في الكلمات، يعني لا تأتي بكلمات غريبة تُشكِل عليهم، فإن ذلك من التشدق في الكلام.

أما المتفيهقون فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمتكبرين، المتكبر الذي يتكبر على الناس ويتفيهق، وإذا قام يمشي كأنه يمشي على روق من تكبره وغطرسته، فإن هذا لا شك خلق ذميم، ويجب على الإنسان أن يحذر منه؛ لأن الإنسان بشر فينبغي أن يعرف قدر نفسه، حتى لو أنعم الله عليه بمال، أو أنعم الله عليه بعلم، أو أنعم الله عليه بجاه، فينبغي أن يتواضع، وتواضع هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالمال والعلم والجاه افضل من تواضع غيرهم، ممن لا يكون كذلك .

ولهذا جاء في الحديث من الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم: (عائل  مستكبر ) لأن العائل لا داعي لاستكباره، والعائل هو الفقير، فهؤلاء الذين منَّ الله عليهم بالعلم والمال والجاه كلما تواضعوا؛ صاروا أفضل ممن تواضع من غيرهم الذين لم يمنّ الله عليهم بذلك.

فينبغي لكل من أعطاه الله نعمة أن يزداد شكراً لله، وتواضعاً للحق وتواضعاً للخلق، وفقني الله وإياكم لأحاسن الأخلاق والأعمال ، وجنبنا وإياكم سيئات الأخلاق والأعمال إنه جواد كريم.).
 انتهى كلامه رحمه الله.


الجمعة، 31 أكتوبر 2014

بعض أقوال العلماء في عصمة الأنبياء


 قال ابن بطال -رحمه الله-: ((وذكر الأنبياء -صلى الله عليهم وسلم -في حديث الشفاعة لخطاياهم، فإن الناس اختلفوا هل يجوز وقوع الذنوب منهم؟ فأجمعت الأمة على أنهم معصومون في الرسالة، وأنه لا تقع منهم الكبائر، واختلفوا في جواز الصغائر عليهم فأطبقت المعتزلة والخوارج على أنه لا يجوز وقوعها منهم !! وزعموا أن الرسل لا يجوز أن تقع منهم ما ينفر الناس عنهم وأنهم معصومون من ذلك!!! وهذا باطل لقيام الدليل مع التنزيل وحديث الرسول أنه ليس كل ذنب كفرًا.
وقولهم: إن الباري تجب عليه عصمة الأنبياء -عليهم السلام- من الذنوب فلا ينفر الناس عنهم بمواقعتهم لها: هو فاسد بخلاف القرآن له، وذلك أن الله تعالى قد أنزل كتابه وفيه متشابه مع سابق علمه أنه سيكون ذلك سببًا لكفر قوم ، فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 7] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ﴾ [النحل: 101] فكان التبديل الذى هو النسخ سببًا لكفرهم ،كما كان إنزاله متشابهًا سببًا لكفرهم ، وقال أهل السنة: جائز وقوع الصغائر من الأنبياء ، واحتجوا بقوله تعالى مخاطبًا لرسوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾[الفتح: 2] فأضاف إليه الذنب ، وقد ذكر الله في كتابه ذنوب الأنبياء فقال تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121] وقال نوح لربه: ﴿إِنَّ ابنِى مِنْ أهلي﴾[هود: 45] فسأله أن ينجيه ، وقد كان تقدم إليه تعالى فقال: ﴿وَلاَ تخاطبني في الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ [هود: 37] وقال إبراهيم:﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لي خطيئتي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 82] وفى كتاب الله تعالى من ذكر خطايا الأنبياء ما لا خفاء به ، وقد تقدم الاحتجاج في هذه المسألة في كتاب الدعاء)). "شرح ابن بطال على صحيح البخاري" (20/87).
---------------
سئل شيخ الإسلام -رحمه الله-عن رجل قال إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر دون الصغائر فكفره رجل بهذه فهل قائل ذلك مخطئ أو مصيب؟ وهل قال أحد منهم بعصمة الأنبياء مطلقا؟ وما الصواب في ذلك ؟؟!
فأجاب: ((الحمد لله رب العالمين؛ ليس هو كافرا باتفاق أهل الدين، ولا هذا من مسائل السب المتنازع في استتابة قائله بلا نزاع، كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله -مع مبالغتهم في القول بالعصمة وفي عقوبة الساب -ومع هذا فهم متفقون على أن القول بمثل ذلك ليس هو من مسائل السب والعقوبة، فضلا أن يكون قائل ذلك كافرا أو فاسقا.
فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر: هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام!! كما ذكر أبو الحسن الآمدي: أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول ولم ينقل عنهم ما يوافق القول الآخر ] وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم: عن الرافضة ثم عن بعض المعتزلة، ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين؛ وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء: أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر ولا يقَرون عليها ولا يقولون إنها لا تقع بحال.
وأول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقا وأعظمهم قولا لذلك: الرافضة، فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان، والسهو والتأويل، وينقلون ذلك إلى من يعتقدون إمامته، وقالوا بعصمة علي والإثنى عشر.
ثم الإسماعيلية الذين -كانوا ملوك القاهرة- وكانوا يزعمون أنهم خلفاء علويون فاطميون ، وهم عند أهل العلم من ذرية عبيد الله القداح ، كانوا هم وأتباعهم يقولون بمثل هذه العصمة لأئمتهم ونحوهم ، مع كونهم -كما قال فيهم أبو حامد الغزالي في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم- قال: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض.
وقد صنف القاضي أبو يعلى وصف مذاهبهم في كتبه ، وكذلك غير هؤلاء من علماء المسلمين ، فهؤلاء وأمثالهم من الغلاة القائلين بالعصمة وقد يكفرون من ينكر القول بها ، وهؤلاء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين.
فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم: كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة والإثنى عشرية؛ ليس هو قول أحد من أصحاب أبي حنيفة ، ولا مالك ولا الشافعي ، ولا المتكلمين المنتسبين إلى السنة المشهورين ، كأصحاب أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، وأبي عبد الله محمد بن كرام وغير هؤلاء ، ولا أئمة التفسير ولا الحديث ولا التصوف ، ليس التكفير بهذه المسألة قول هؤلاء.
فالمكفر بمثل ذلك يستتاب، فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا، إلا أن يظهر منه ما يقتضي كفره وزندقته، فيكون حكمه حكم أمثاله.
وكذلك المفسِّق بمثل هذا القول: يجب أن يعزر بعد إقامة الحجة عليه، فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة الإسلام.
وأما التصويب والتخطئة في ذلك: فهو من كلام العلماء الحافظين، من علماء المسلمين
المنتسبين إلى السنة والجماعة، وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل لا تحتمله هذا الفتوى والله أعلم)). "مجموع الفتاوى" (4/319-321)
---------------
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ((طوائف من أهل البدع والكلام ، والشيعة وكثير من المعتزلة ، وبعض الأشعرية ، وغيرهم ممن يوجب عصمة الأنبياء من الصغائر ، وهؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو أعظم منه ، في تحريف كلام الله عن مواضعه ؛ وأما السلف قاطبة من القرون الثلاثة الذين هم خير  قرون الأمة ؛ وأهل الحديث والتفسير ؛ وأهل كتب قصص الأنبياء والمبتدأ وجمهور الفقهاء والصوفية ؛ وكثير من أهل الكلام كجمهور الأشعرية وغيرهم وعموم المؤمنين: فعلى ما دل عليه الكتاب والسنة ، مثل قوله تعالى: ﴿وعصى آدم ربه فغوى﴾ وقوله: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ بعد أن قال لهما: ﴿ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين﴾ وقوله تعالى: ﴿فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم﴾ مع أنه عوقب بإخراجه من الجنة ؛وهذه نصوص لا تردّ إلا بنوع من تحريف الكلام عن مواضعه..)) "مجموع الفتاوى" (20/88-89).
---------------
وقال العلامة الشنقيطي -رحمه الله-:((وقوله تعالى في هذه الآية ﴿وعصى آدم﴾ يدل على أن معنى غوى: ضل عن طريق الصواب-كما ذكرنا- وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين من الصغائر، وعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول ، فيه كلام كثير واختلاف معروف ، وسنذكر هنا طرفاً من كلام أهل الأصول في ذلك؛ قال ابن الحاجب في "مختصر الأصول": مسألة: الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء معصية، وخالف الروافض وخالف المعتزلة إلا في الصغائر، ومعتمدهم التقبيح العقلي،  والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام لدلالة المعجزة على الصدق؛ وجوزه القاضي غلطاً وقال: دلت على الصدق اعتقاداً ، وأما غيره من المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر والصغائر الخسيسة ، والأكثر على جواز غيرهما .أهـ منه بلفظه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكبائر ومن صغائر الخسة دون غيرها من الصغائر)). "أضواء البيان" (4/583-584)
---------------
وقال-رحمه الله-: ((هو ونحوه من الآيات: مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ؛ لأنهم يتداركونها بالتوبة والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن.
واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على
عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ. واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافاً مشهوراً معروفاً في الأصول؛ ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع منهم بعض الشيء: فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله، حتى يبلغوا بذلك درجة أعلى من درجة من لم يقع منه ذلك))."أضواء البيان" (4/105-106).
---------------
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله-:( (وأما الصغائر التي لا تزري بالمنصب، ولا كانت من الدناءات فاختلفوا هل تجوز عليهم، وإذا جازت هل وقعت منهم أم لا؟ فنقل إمام الحرمين وإِلكيَا عن الأكثرين الجواز عقلا، وكذا نقل ذلك عن الأكثرين ابن الحاجب، ونقل إمام الحرمين وابن القشيري عن الأكثرين أيضا عدم الوقوع، قال إمام الحرمين: الذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع في ذلك نفيا أو إثباتا والظواهر مشعرة بالوقوع.
ونقل القاضي عياض تجويز الصغائر ووقوعها عن جماعة من السلف منهم أبو جعفر الطبري، وجماعة من الفقهاء والمحدثين: قالوا ولا بد من تنبيههم عليه إما في الحال على رأي جمهور المتكلمين أو قبل وفاتهم على رأي بعضهم)). "إرشاد الفحول" (1/70)

الجمعة، 5 سبتمبر 2014

يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال - شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى


بسم الله الرحمن الرحيم



يقول شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:


"ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل، وربما حكى إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم.
فيقال لهم: ليس هذا بحق، فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جـاء به القرآن هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ (النظر والاستدلال) ولفظ (الكلام) فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال.

وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام تسمي ما وضعه بعضهم (أصول الدين) وهذا اسم عظيم والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم، فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك، قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين، وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين، وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بين أصوله وفروعه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله، كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع، فهكذا لفظ النظر والاعتبار والاستدلال.

وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة، كما كان الزهري يقول: ((كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة))، وقال مالك: ((السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق)).
وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج؛ هو الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله، والرسول؛ هو الدليل الهادي الخريت في هذا الصراط، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}
وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}
 وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
 وقال عبد الله بن مسعود: ((خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ })).

وإذا تأمل العاقل - الذي يرجو لقاء الله - هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية، والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعي أن سبيله هو الصواب وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم، الذي لا يتكلم عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى".
-----------------------------
(مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 4 ص55- 77)

الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - من درر العلامة السعدي


 من سنن الله أن يرسل الفتن لتتكشف بها حقيقة كل مُدَّع فيظهر بذلك صدقه من عدمه.

قال عز و جلَّ :
 ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )
(سورة العنكبوت - الآيتان 1 و 2) .


      قال الشيخ السعدي في تفسيره لهذه الآية : "يخبر عزَّ و جلَّ عن تمام حكمته و أن حكمته تقتضي أنَّ كل من قال :  إنه مؤمن و ادعى لنفسه الإيمان أن لا  يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن و المحن و لا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم و فروعه فإنهم لو كان الأمر كذلك لم يتميز الصادق من الكاذب و المحق من المبطل.

 و لكن سنته و عادته في الأولين و في هذه الأمة أن يبتليهم بالسرّاء و الضرّاء و العسر و اليسر و المنشط و المكره و الغنى و الفقر و إدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان و مجاهدة الأعداء بالقول و العمل و نحو ذلك من الفتن التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة و الشهوات المعارضة للإرادة.

فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه و لا يتزلزل و يدفعها بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة و الداعية إلى المعاصي و الذنوب أو الصارفة عن أمر الله به و رسوله يعمل بمقتضى الإيمان و يجاهد شهوته دلَّ ذلك على صدق إيمانه و صحته.

 و من كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكًا و ريبًا و عند إعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصرفه عن الواجبات دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه و صدقه.

 و الناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلاَّ الله، فمستقل و مستكثر.

 فنسأل الله عزَّ و جلَّ أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و أن يثبت قلوبنا على دينه فالإبتلاء و الإمتحان للنفوس بمنزلة الكير يخرج خبثها و طيبها".
--------
    تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان
    للعلامة عبد الرحمان السعدي

الأربعاء، 13 أغسطس 2014

التعامل مع أهل البدع المغلَّظة وغيرهم - كلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
 في منهاج السنة النبوية (5 / 240-249) 
في معرض كلامه على التعامل مع أهل البدع المغلَّظة وغيرهم وتكفيرهم :



"وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحاً.
وإذا غلَّظ في ذم بدعة و معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها.
وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزاً ، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفى والإنتقام ، كما هجر النبي http://www.ahlalhdeeth.com/vb/images/icons/sallah.gif أصحابه الثلاثة الذي خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق .
وهذا مبني على مسألتين :
إحداهما : أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه - كما تقوله الخوارج - بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقوله المعتزلة .
الثاني : أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية .
وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها .وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين ، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم ، كالخوارج والمعتزلة والجهمية .
ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم .
وقد يسلكون في التكفير ذلك ، فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقاً ، ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع ، وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية .
وهذا القول أيضا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة ، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، وليس فيهم من كفر كل مبتدع .
بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك .
ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال ، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر .
ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله ، مع الجهل والتأويل .فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه ، وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه .
وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين ، فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم ، وإذا قال المؤمن : ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان ، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوَّله ، فخالف السنة ، أو أذنب ذنبا ، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان ، فيدخل في العموم .
وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة ، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا ، بل مؤمنين ، فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد ، كما يستحقه عصاة المؤمنين .
والنبي http://www.ahlalhdeeth.com/vb/images/icons/sallah.gif لم يخرجهم من الإسلام ، بل جعلهم من أمته ، ولم يقل إنهم يخلدون في النار .
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته .فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة ، من جنس بدع الرافضة والخوارج .
وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم - عليُّ بن أبي طالب وغيره - لم يكفِّروا الخوارج الذين قاتلوهم ، بل أوَّل ما خرجوا عليه ، وتحيَّزوا بحروراء ، وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب : إنَّ لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ، ولا حقكم من الفيء ، ثم أرسل إليهم ابن عباس ، فناظرهم فرجع نحو نصفهم ، ثم قاتل الباقي وغلبهم .
ومع هذا لم يسب لهم ذرية ، ولا غنم لهم مالاً ، ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله.
بل كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة ، ولم ينكر أحد على عليٍّ ذلك .
فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام .
قال الإمام محمد بن نصر المروزي : وقد ولى علي رضي الله عنه قتال أهل البغي.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى ، وسماهم مؤمنين ، وحكم فيهم بأحكام المؤمنين ، وكذلك عمار بن ياسر .
وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى ين آدم عن مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : كنت عند عليٍّ حين فرغ من قتال أهل النهروان ، فقيل له : أمشركون هم ؟
قال : من الشرك فرُّوا .
فقيل : فمنافقون ؟
قال : المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً .
قيل : فما هم ؟!
قال : قوم بغوا علينا فقاتلناهم .
وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن مسعر عن عامر بن سفيان عن أبي وائل قال : قال رجل من دُعي إلى البغلة الشهباء يوم قتل المشركون ؟
فقال علي : من الشرك فرُّوا !
قال : المنافقون .
قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا .
قال : فما هم ؟
قال : قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم .
قال : حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن أبي خالدة عن حكيم بن جابر قال : قالوا لعلي حين قتل أهل النهروان : أمشركون هم ؟
قال : من الشرك فروا .
قيل : فمنافقون ؟
قال : المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا .
قيل : فما هم ؟
قال : قوم حاربونا فحاربناهم ، وقاتلونا فقاتلناهم .
قلت : الحديث الأول وهذا الحديث = صريحان في أن علياً قال هذا القول في الخوارج الحرورية ، أهل النهروان ، الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي  في ذمهم ، والأمر بقتالهم ، وهم يكفِّرون عثمان وعلياً ، ومن تولاهما ، فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرا ، ودارهم دار كفر ، فإنما دار الإسلام عندهم هي دارهم .
قال الأشعرى وغيره : " أجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب http://www.ahlalhdeeth.com/vb/images/icons/radia.gif " .
ومع هذا عليٌّ قاتلهم لما بدؤوه بالقتال ، فقتلوا عبد الله بن خباب ، وطلب علي منهم قاتله ، فقالوا : كلُّنا قتله .
وأغاروا على ماشية الناس .
ولهذا قال فيهم : قوم قاتلونا فقاتلناهم وحاربونا فحاربناهم .
وقال : قوم بغوا علينا فقاتلناهم .
وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء ، فإنهم بغاة على جميع المسلمين ، سوى من وافقهم على مذهبهم ، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال ، ولا يندفع شرهم إلا بالقتال ، فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق .
فإن إولئك إنما مقصودهم المال ، فلو أعطوه لم يقاتلوا ، وإنما يتعرَّضون لبعض الناس ، وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين ، حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن .
ومع هذا فقد صرَّح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ، ليسوا كفارا ولا منافقين .
وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه ، يقولون : لا نكفِّر إلاّ من يكفِّر).
فإنَّ الكفر ليس حقا لهم ، بل هو حق لله ، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله ، بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك ، ولو قتله بتجريع خمر ، أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك ؛ لأن هذا حرام لحق الله تعالى .
ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسبُّ المسيح .
والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا .
وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين ، فالظاهر أنه كان يوم النهروان أيضا .
وقد روى عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا .
قال إسحاق بن راهويه : حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : سمع عليٌّ يوم الجمل أو يوم صفين رجلا يغلو في القول .
فقال : لا تقولوا إلا خيرا ، إنما هم قوم زعموا ، إنا بغينا عليهم ، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم .
فذكر لأبي جعفر أنه أخذ منهم السلاح فقال : ما كان أغناه عن ذلك .
وقال محمد بن نصر حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن راشد عن مكحول : أنَّ أصحاب عليٍّ سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ، ما هم ؟
قال : هم مؤمنون .
وبه قال أحمد بن خالد حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الواحد بن أبي عون قال : مرَّ عليٌّ وهو متَّكىءٌ على الأشتر على قتلى صفين ، فإذا حابس اليماني مقتول ، فقال الأشتر : إنا لله وإنا اليه راجعون ، هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين ، عليه علامة معاوية ، أما والله لقد عهدته مؤمناً .
قال علي : والآن هو مؤمن .
قال : وكان حابس رجلا من أهل اليمن من أهل العبادة والاجتهاد .
قال محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار بن نافع عن أبي مطر قال: قال علي : متى ينبعث أشقاها ؟
قيل : من أشقاها ؟
قال : الذي يقتلني .
فضربه ابن ملجم بالسيف ، فوقع برأس علي رضي الله عنه ، وهمَّ المسلمون بقتله ، فقال : لا تقتلوا الرجل ، فإن برئت فالجروح قصاص ، وإن مِتُّ فاقتلوه .
فقال : إنك ميت .
قال : وما يدريك قال كان سيفي مسموما .
وبه قال محمد بن عبيد حدثنا الحسن وهو ابن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث قال : إنَّا لبواد وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر إذ أقبل رجل ، فقال : كفر والله أهل الشام .
فقال عمار : لا تقل ذلك ، فقبلتنا واحدة ، ونبينا واحد ، ولكنهم قوم مفتونون فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق .
وبه قال ابن يحيى حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الحسن بن الحكم عن رباح بن الحرث عن عمار بن ياسر قال : ديننا واحد ، وقبلتنا واحدة ، ودعوتنا واحدة، ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم .
قال ابن يحيى حدثنا يعلى حدثنا مسعر عن عبد الله بن رباح عن رباح بن الحارث قال : قال عمار بن ياسر : لا تقولوا كَفَرَ أهلُ الشام ، قولوا : فسَقُوا ، قولوا : ظلمُوا .
قال محمد بن نصر : وهذا يدل على أن الخبر الذي روي عن عمار ابن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان : ( هو كافر ) خبر باطل ، لا يصح ؛ لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دعم عثمان فهو لتكفير عثمان أشد إنكاراً .
قلت : والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك أنكر عليه علي http://www.ahlalhdeeth.com/vb/images/icons/radia.gif ، وقال : أتكفر برب آمن به عثمان ، وحدثه بما يبين بطلان ذلك القول ، فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولا ، فقد رجع عنه حين بيَّن له علي رضي الله عنه أنه قول باطل .
ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلُّون خلفهم ، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة يصلُّون خلف نجْدة الحروري.
وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم ، كما يخاطب المسلم المسلم ، كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل.
وحديثه في البخاري .
وكما أجاب نافعَ بنَ الأزرق عن مسائل مشهورة ، وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان .
وما زالت سيرة المسلمين على هذا .
ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه .
هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة ، وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه ، في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره .
أي : أنهم شر على المسلمين من غيرهم ، فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى ، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم ، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم ، وقتل أولادهم ، مكفرين لهم ، وكانوا متدينين بذلك ، لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة .
ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ، ولا جعلوهم مرتدين ، ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل ، بل اتقوا الله فيهم ، وساروا فيهم السيرة العادلة .
وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم ، فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان .
مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين ، وقد ضعَّفه ابن حزم وغيره لكن حسنه غيره أو صحَّحه كما صحَّحه الحاكم وغيره .
وقد رواه أهل السنن وروي من طرق .
وليس قوله : ( ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ) بأعظم من قوله تعالى : ( إنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) ، وقوله: ( من يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوق نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ) ، وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار .
ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب ، أو كانت له حسنات محت سيئاته ، أو كفر الله عنه بمصائب ، أو غير ذلك كما تقدم .
بل المؤمن بالله ورسوله باطنا وظاهرا الذي قصد اتباع الحق ، وما جاء به الرسول إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة ، من المتعمد العالم بالذنب ، فإن هذا عاص مستحقٌّ للعذاب بلا ريب .
وأما ذلك فليس متعمدا للذنب ، بل هو مخطىءٌ ، والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان ... ". 


 إلى أن قال رحمه الله :


 " ولهذا قال الشافعي : ( لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت).
ومن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا .
ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطِّئون ولا يكفِّرون .
وسبب ذلك : أنَّ أحدهم قد يظنُّ ما ليس بكفر كفرا ، وقد يكون كفرا ؛ لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول ، وسب للخالق .
والآخر لم يتبين له ذلك ، فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله .
والناس لهم فيما يجعلونه كفرا طرق متعددة ...".