ألا ترى إلى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما
يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم : بأنهم يقرؤن
القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم
لأن الفهم راجع إلى القلب ، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال ، وإنما
يقف عند محل الأصوات والحروف المسموعة فقط ، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم
، وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا إلى
آخره .
وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه
، فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن ، و سعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التميمي قال
:خلا عمر ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها
واحد ؟ فأرسل إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد
وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال ، فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين
: إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما أنزل ، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون
القرآن ولا يدرون فيما نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإن كان لهم فيه رأي اختلفوا ، وقال
سعيد :فيكون لكل قوم فيه رأي ، فإذا كان كذلك اختلفوا ، وقال سعيد فيكون لكل قوم فيه
رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا . قال : فزجره عمر وانتهره عليفانصرف ابن عباس ،
ونظر عمر فيما قال فعرفه ، فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته . فأعاد عليه ، فعرف
عمر قوله وأعجبه .
وما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما
ـ هو الحق ، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما
قصد بها ، فلم يتعد ذلك فيها ، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها . فذهب
كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر ، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى
الصواب ، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات ، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي ،
أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا ، إذ لا دليل عليه من الشريعة ، فضلوا
وأضلوا .
ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل
نافعا : كيف رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى
آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين . فسر سعيد بن جبير من ذلك ، فقال : مما
يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
ويقرنون معها : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا
: قد كفر ، ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ، فهذه الأمة مشركون فيخرجون فيقتلون
ما رأيت ، لأنهم يتأولون هذه الآية . فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس ، وهو
الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل القرآن فيه .
وقال نافع : إن ابن عمر كان إذا سئل عن الحرورية
؟ قال : يكفرون المسلمين ، ويستحلون دماءهم وأموالهم ، وينكحون النساء في عددهن ، وتأتيهم
المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج ، فلا أعلم أحدا أحق بالقتال منهم .
---------------------------------
الباب التاسع في السبب الذي لأجله
افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين
الاعتصام - أبو إسحاق الشاطبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ضع تعليقا أو استفسارا أو طلبا لكتاب تريد أن نضيفه للموقع