الخميس، 30 مايو 2013

مسألةَ الكفرِ العملي والكفرِ الاعتقادي - كفر دون كفر - للإمام الألباني رحمه الله تعالى

قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: 
((فائدة هامة: إذا علمت أنَّ الآيات الثلاث: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "فأولئك هم الظالمون"، "فأولئك هم الفاسقون" نزلت في اليهود وقولهم في حكمه صلى الله عليه وسلم: "إنْ أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإنْ لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه" و قد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال: "يقولون: إنْ أوتيتم هذا فخذوه، وإنْ لم تؤتوه فاحذروا".
إذا عرفت هذا؛ فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين و قضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية، أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك وإخراجهم من الملة إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله وإنْ كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله؛ لا يجوز ذلك لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى؛ ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله، بخلاف اليهود الكفار فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم: "... و إنْ لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه"، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلاً.
وسرُّ هذا؛ أنَّ الكفر قسمان: اعتقادي وعملي؛ فالاعتقادي مقرّه القلب، والعملي محلّه الجوارح؛ فمن كان عمله كفراً لمخالفته للشرع وكان مطابقاً لما وقر في قلبه من الكفر به: فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبداً.
وأما إذا كان – أي: العمل - مخالفاً لما وقَرَ في قلبه؛ فهو مؤمن بحكم ربه ولكنه يخالف بعمله: فكفره كفرٌ عملي فقط وليس كفراً اعتقادياً، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه، وإنْ شاء غفرَ له، وعلى هذا النوع من الكفر تُحمَلُ الأحاديثُ التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئاً من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر بعضها: "اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب، والنياحةُ على الميت" رواه مسلم، "الجدال في القرآن كفر"، "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، "كفر بالله تبرؤ من نسب وإنْ دقْ"، "التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر"، "لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض" متفق عليه، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها.
فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي: فكفرُه كفر عملي؛ أي إنه يعمل عمل الكفار؛ إلا أن يستحلَّها ولا يرى كونَها معصية: فهو حينئذ كافرٌ حلال الدم، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضاً.
والحكم بغير ما أنزل الله لا يخرج عن هذه القاعدة أبداً، وقد جاء عن السلف ما يدعمها، وهو قولهم في تفسير الآية: "كفر دون كفر"، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم تلقّاه عنه بعض التابعين وغيرهم، ولا بُدَّ من ذِكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضلّ اليوم في هذه المسألة الخطيرة، ونحا نحو الخوارج الذين يكفِّرون المسلمين بارتكابهم المعاصي وإنْ كانوا يصلون ويصومون.
1 - روى ابن جرير الطبري ( 10 / 355 / 12053 ) بإسناد صحيح عن ابن عباس: (ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: "هي به كفر وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله".
2 - وفي رواية عنه في هذه الآية: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر" أخرجه الحاكم ( 2 / 313) وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط
الشيخين؛ فإنَّ إسناده كذلك. ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في "تفسيره" (6/ 163) عن الحاكم أنه قال: "صحيح على شرط الشيخين" فالظاهر أنَّ في نسخة "المستدرك" المطبوعة سقطاً، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضاً ببعض اختصار.
3 - وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق" أخرجه ابن جرير (12063). قلت: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس لكنه جيد في الشواهد.
4- ثم روى (12047 - 12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (وذكر الآيات الثلاث): "كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم" وإسناده صحيح.
5- ثم روى (12052) عن سعيد المكي عن طاووس (وذكر الآية) قال: "ليس بكفر ينقل عن الملة" وإسناده صحيح، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم، وروى عنه جمع .
6- وروى (12025 و 12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفرٌ من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" أحق هو؟ قال: نعم. قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟! قال: هو دينهم الذي يدينون به وبه يقولون وإليه يدعون - [ يعني الأمراء ] - فإنْ هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله ولكنك تَفرَق [أي: تخاف منهم]!!. قال: أنتم أولى بهذا مني، لا أرى، وإنَّكم أنتم ترون هذا ولا تخرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك. أو نحوا من هذا. وإسناده صحيح.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال؛ ساقها ابن جرير (10 /346 - 357) بأسانيده إلى قائليها، ثم ختم ذلك بقوله (10/35‏:
"وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب؛ لأنَّ ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم فكونها خبراً عنهم أولى.
فإنْ قال قائل: فإنَّ الله - تعالى ذكره - قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله فكيف جعلته خاصاً؟ قيل: إنَّ الله تعالى عمَّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم - على سبيل ما تركوه - كافرون. وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي".
وجملة القول: أنَّ الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله فمن شاركهم في الجحد فهو كافر كفراً اعتقادياً ومن لم يشاركهم في الجحد فكفره عملي لأنه عمل عملهم، فهو بذلك مجرم آثم؛ ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه.
وقد شرح هذه وزاده بياناً الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم ابن سلام في "كتاب الإيمان/ باب الخروج من الإيمان بالمعاصي" (ص84-87 -بتحقيقي) فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق.
وبعد كتابة ما سبق؛ رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في (مجموع الفتاوى 3 / 26: "أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله" ثم ذكر (7 /254) أنَّ الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها؟ فقال: "كفر لا ينقل عن الإيمان؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه"، وقال ( 7 / 312 ): "وإذا كان من قول السلف أنَّ الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر؛ وليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قالوا: كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة"))

انتهى كلام الألباني رحمه الله تعالى
 نقلاً من سلسلة الأحاديث الصحيحة 6/110 
دار المعارف/الرياض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ضع تعليقا أو استفسارا أو طلبا لكتاب تريد أن نضيفه للموقع