الأربعاء، 28 أغسطس 2013

في تعظيم حفظ العلم - درة غالية للإمام ابن الجوزي

فصل[في تعظيم حفظ العلم]
الإمام ابن الجوزي


إعلم أن المعلم يفتقر إلى دوام الدراسة ، و من الغلط الإنهماك على الإعادة ليلاً و نهاراً، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض.

و قد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موته ، فنظر إلى مائة كتاب و قال : [ قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد ] ، ثم خرج فقال : [ ما يجيء منه شيء ] ، فقيل له : [ ما الذي كنت تفعل ؟ ] قال : [ كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة ] .
و من الغلط تحميل القلب حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى ، فإن القلب جارحة من الجوارح ، و كما أن من الناس من يحمل المائة رطل ، و منهم من يعجز عن عشرين رطلاً ، فكذلك القلوب .

فليأخذ الإنسان على قدر قوته و دونها ، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات.
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات.

و الصواب أن يأخذ قدر ما يطيق و يعيد في وقتين من النهار و الليل ، و يرز
قه القوى في بقية الزمان ، و الدوام أصل عظيم .

فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ قد نسي .
و للحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا و ما يقاربه من أوقات الزمان ، و أفضلها إعادة الأسحار و أنصاف النهار ، و الغدوات خير من العشيات ، و أوقات الجوع خير من أوقات الشبع .
و لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة و على شاطئ نهر ، لأن ذلك يلهي .
و الأماكن العالية للحفظ خير من السوافل .
و للخلوة أصل ، و جمع الهم أصل الأصول .
و ترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ و تأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه .
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم ، و ألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله .
و من لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه ، فإن مكابرة النفس لا تصلح .
و إصلاح المزاج من الأصول العظيمة ، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ .
  • قال الزهري : [ ما أكلت خلاً منذ عالجت الحفظ ] .
  • و قيل لأبي حنيفة : بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال : بجمع الهم .
  • و قال حماد بن سلمة : [ بقلة الغم ] .
  • و قال مكحول : من نظف ثوبه قل همه ، و من طابت ريحه زاد عقله ، و من جمع بينهما زادت مروءته .
و أختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعين سنة ، و هذا لأجل جمع الهم .
فإن غلب عليه الأمر تزوج و اجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على إعادة العلم .
ثم لينظر ما يحفظ من العلم ، فإن العمر عزيز ، و العلم غزير .


و إن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه ، و إن كان كل العلوم حسناً ، و لكن الأولى تقديم الأهم و الأفضل .

و أفضل ما تشاغل به حفظ القرآن ثم الفقه ، و ما بعد هذا بمنزلة تابع ، و من رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل ، و من قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن( و اتقوا الله و يعلمكم الله) .
-----------------------
كتاب صيد الخاطر - ص :225.
 للإمام ابن الجوزي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ضع تعليقا أو استفسارا أو طلبا لكتاب تريد أن نضيفه للموقع