الجمعة، 8 أغسطس 2014

صلح الحديبية - وجوب تقديم النص على الرأي، والشرع على الهوى - من درر شيخ الإسلام



قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وطيب ثراه :



" لما صالح النبي قريشا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين وفعله النبي طاعة لله وثقة بوعده له وأن الله سينصره عليهم واغتاظ من ذلك جمهور الناس وعز عليهم حتى على مثل عمر وعلي وسهل بن حنيف ولهذا كبر عليه علي رضي الله عنه لما مات تبيينا لفضله على غيره يعني سهل بن حنيف.

فعلي أمره النبي أن يمحو اسمه من الكتاب فلم يفعل حتى أخذ النبي الكتاب ومحاه بيده، وفي صحيح البخاري أنه قال لعلي: "امح رسول الله" قال "لا والله لا أمحوك أبدا" فأخذ رسول الله الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله".
وسهل بن حنيف يقول "لو استطعت أن أرد أمر رسول الله لرددته"
 وعمر يناظر النبي ويقول "إذا كنا على الحق وعدونا على الباطل وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار وأنت رسول الله حقا فعلام نعطي الدنية في ديننا" ثم إنه عن ذلك وعمل له أعمالا.

وأبو بكر أطوعهم لله ورسوله لم يصدر عنه مخالفة في شئ قط بل لما ناظره عمر بعد مناظرته للنبي أجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي من غير أن يسمع جواب رسول الله

وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك فأين مقامه من مقام غيره هذا يناظره ليرده عن أمره وهذا يأمره ليمحو اسمه وهذا يقول لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته وهو يأمر الناس بالحلق والنحر فيتوقفون

ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها.

لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي والشرع على الهوى، فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء وأصل الشر من تقديم الرأي على النص، والهوى على الشرع، فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله وشرعه وليس له معارضته برأيه وهواه.

كما قال : "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري" فبين أنه رسول الله يفعل ما أمره به مرسله، لا يفعل من تلقاء نفسه، وأخبر أنه يطيعه لا يعصيه، كما يفعل المتبع لرأيه وهواه، وأخبر أنه ناصره فهو على ثقة من نصر الله فلا يضره ما حصل فإن في ضمن ذلك من المصلحة وعلو الدين ماظهر بعد ذلك وكان هذا فتحا مبينا في الحقيقة وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس بل رأى ذلك ذلا وعجزا وغضاضة وضيما

ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك رضي الله عنهم كما في الحديث رجوع عمر وكذلك في الحديث أن سهل بن حنيف اعترف بخطئه حيث قال والله ورسوله أعلم وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم فأمرهم أن يتهموا رأيهم على دينهم فإن الرأي يكون خطأ كما كان رأيهم يوم الحديبية خطأ وكذلك علي الذي لم يفعل ما أمره به والذين لم يفعلوا ما أمروا به من الحلق والنحر حتى فعل هو ذلك قد تابوا من ذلك والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.

والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس وإلا فهم خير الخلق وأفضل الناس وأعظمهم علما وإيمانا وهم الذين بايعوا تحت الشجرة وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار."
------------
 (منهاج السنة النبوية – ج8 / 411 و 412 )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ضع تعليقا أو استفسارا أو طلبا لكتاب تريد أن نضيفه للموقع