الجمعة، 31 أكتوبر 2014

بعض أقوال العلماء في عصمة الأنبياء


 قال ابن بطال -رحمه الله-: ((وذكر الأنبياء -صلى الله عليهم وسلم -في حديث الشفاعة لخطاياهم، فإن الناس اختلفوا هل يجوز وقوع الذنوب منهم؟ فأجمعت الأمة على أنهم معصومون في الرسالة، وأنه لا تقع منهم الكبائر، واختلفوا في جواز الصغائر عليهم فأطبقت المعتزلة والخوارج على أنه لا يجوز وقوعها منهم !! وزعموا أن الرسل لا يجوز أن تقع منهم ما ينفر الناس عنهم وأنهم معصومون من ذلك!!! وهذا باطل لقيام الدليل مع التنزيل وحديث الرسول أنه ليس كل ذنب كفرًا.
وقولهم: إن الباري تجب عليه عصمة الأنبياء -عليهم السلام- من الذنوب فلا ينفر الناس عنهم بمواقعتهم لها: هو فاسد بخلاف القرآن له، وذلك أن الله تعالى قد أنزل كتابه وفيه متشابه مع سابق علمه أنه سيكون ذلك سببًا لكفر قوم ، فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 7] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ﴾ [النحل: 101] فكان التبديل الذى هو النسخ سببًا لكفرهم ،كما كان إنزاله متشابهًا سببًا لكفرهم ، وقال أهل السنة: جائز وقوع الصغائر من الأنبياء ، واحتجوا بقوله تعالى مخاطبًا لرسوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾[الفتح: 2] فأضاف إليه الذنب ، وقد ذكر الله في كتابه ذنوب الأنبياء فقال تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121] وقال نوح لربه: ﴿إِنَّ ابنِى مِنْ أهلي﴾[هود: 45] فسأله أن ينجيه ، وقد كان تقدم إليه تعالى فقال: ﴿وَلاَ تخاطبني في الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ [هود: 37] وقال إبراهيم:﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لي خطيئتي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 82] وفى كتاب الله تعالى من ذكر خطايا الأنبياء ما لا خفاء به ، وقد تقدم الاحتجاج في هذه المسألة في كتاب الدعاء)). "شرح ابن بطال على صحيح البخاري" (20/87).
---------------
سئل شيخ الإسلام -رحمه الله-عن رجل قال إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر دون الصغائر فكفره رجل بهذه فهل قائل ذلك مخطئ أو مصيب؟ وهل قال أحد منهم بعصمة الأنبياء مطلقا؟ وما الصواب في ذلك ؟؟!
فأجاب: ((الحمد لله رب العالمين؛ ليس هو كافرا باتفاق أهل الدين، ولا هذا من مسائل السب المتنازع في استتابة قائله بلا نزاع، كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله -مع مبالغتهم في القول بالعصمة وفي عقوبة الساب -ومع هذا فهم متفقون على أن القول بمثل ذلك ليس هو من مسائل السب والعقوبة، فضلا أن يكون قائل ذلك كافرا أو فاسقا.
فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر: هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام!! كما ذكر أبو الحسن الآمدي: أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول ولم ينقل عنهم ما يوافق القول الآخر ] وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم: عن الرافضة ثم عن بعض المعتزلة، ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين؛ وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء: أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر ولا يقَرون عليها ولا يقولون إنها لا تقع بحال.
وأول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقا وأعظمهم قولا لذلك: الرافضة، فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان، والسهو والتأويل، وينقلون ذلك إلى من يعتقدون إمامته، وقالوا بعصمة علي والإثنى عشر.
ثم الإسماعيلية الذين -كانوا ملوك القاهرة- وكانوا يزعمون أنهم خلفاء علويون فاطميون ، وهم عند أهل العلم من ذرية عبيد الله القداح ، كانوا هم وأتباعهم يقولون بمثل هذه العصمة لأئمتهم ونحوهم ، مع كونهم -كما قال فيهم أبو حامد الغزالي في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم- قال: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض.
وقد صنف القاضي أبو يعلى وصف مذاهبهم في كتبه ، وكذلك غير هؤلاء من علماء المسلمين ، فهؤلاء وأمثالهم من الغلاة القائلين بالعصمة وقد يكفرون من ينكر القول بها ، وهؤلاء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين.
فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم: كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة والإثنى عشرية؛ ليس هو قول أحد من أصحاب أبي حنيفة ، ولا مالك ولا الشافعي ، ولا المتكلمين المنتسبين إلى السنة المشهورين ، كأصحاب أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، وأبي عبد الله محمد بن كرام وغير هؤلاء ، ولا أئمة التفسير ولا الحديث ولا التصوف ، ليس التكفير بهذه المسألة قول هؤلاء.
فالمكفر بمثل ذلك يستتاب، فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا، إلا أن يظهر منه ما يقتضي كفره وزندقته، فيكون حكمه حكم أمثاله.
وكذلك المفسِّق بمثل هذا القول: يجب أن يعزر بعد إقامة الحجة عليه، فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة الإسلام.
وأما التصويب والتخطئة في ذلك: فهو من كلام العلماء الحافظين، من علماء المسلمين
المنتسبين إلى السنة والجماعة، وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل لا تحتمله هذا الفتوى والله أعلم)). "مجموع الفتاوى" (4/319-321)
---------------
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ((طوائف من أهل البدع والكلام ، والشيعة وكثير من المعتزلة ، وبعض الأشعرية ، وغيرهم ممن يوجب عصمة الأنبياء من الصغائر ، وهؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو أعظم منه ، في تحريف كلام الله عن مواضعه ؛ وأما السلف قاطبة من القرون الثلاثة الذين هم خير  قرون الأمة ؛ وأهل الحديث والتفسير ؛ وأهل كتب قصص الأنبياء والمبتدأ وجمهور الفقهاء والصوفية ؛ وكثير من أهل الكلام كجمهور الأشعرية وغيرهم وعموم المؤمنين: فعلى ما دل عليه الكتاب والسنة ، مثل قوله تعالى: ﴿وعصى آدم ربه فغوى﴾ وقوله: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ بعد أن قال لهما: ﴿ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين﴾ وقوله تعالى: ﴿فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم﴾ مع أنه عوقب بإخراجه من الجنة ؛وهذه نصوص لا تردّ إلا بنوع من تحريف الكلام عن مواضعه..)) "مجموع الفتاوى" (20/88-89).
---------------
وقال العلامة الشنقيطي -رحمه الله-:((وقوله تعالى في هذه الآية ﴿وعصى آدم﴾ يدل على أن معنى غوى: ضل عن طريق الصواب-كما ذكرنا- وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين من الصغائر، وعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول ، فيه كلام كثير واختلاف معروف ، وسنذكر هنا طرفاً من كلام أهل الأصول في ذلك؛ قال ابن الحاجب في "مختصر الأصول": مسألة: الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء معصية، وخالف الروافض وخالف المعتزلة إلا في الصغائر، ومعتمدهم التقبيح العقلي،  والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام لدلالة المعجزة على الصدق؛ وجوزه القاضي غلطاً وقال: دلت على الصدق اعتقاداً ، وأما غيره من المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر والصغائر الخسيسة ، والأكثر على جواز غيرهما .أهـ منه بلفظه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكبائر ومن صغائر الخسة دون غيرها من الصغائر)). "أضواء البيان" (4/583-584)
---------------
وقال-رحمه الله-: ((هو ونحوه من الآيات: مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ؛ لأنهم يتداركونها بالتوبة والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن.
واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على
عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ. واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافاً مشهوراً معروفاً في الأصول؛ ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع منهم بعض الشيء: فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله، حتى يبلغوا بذلك درجة أعلى من درجة من لم يقع منه ذلك))."أضواء البيان" (4/105-106).
---------------
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله-:( (وأما الصغائر التي لا تزري بالمنصب، ولا كانت من الدناءات فاختلفوا هل تجوز عليهم، وإذا جازت هل وقعت منهم أم لا؟ فنقل إمام الحرمين وإِلكيَا عن الأكثرين الجواز عقلا، وكذا نقل ذلك عن الأكثرين ابن الحاجب، ونقل إمام الحرمين وابن القشيري عن الأكثرين أيضا عدم الوقوع، قال إمام الحرمين: الذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع في ذلك نفيا أو إثباتا والظواهر مشعرة بالوقوع.
ونقل القاضي عياض تجويز الصغائر ووقوعها عن جماعة من السلف منهم أبو جعفر الطبري، وجماعة من الفقهاء والمحدثين: قالوا ولا بد من تنبيههم عليه إما في الحال على رأي جمهور المتكلمين أو قبل وفاتهم على رأي بعضهم)). "إرشاد الفحول" (1/70)